الحلقة الثانية
يعتبر زرياب من أشهر الموسيقيين في العصر العباسي، وقد ولد عام 160 هجري، و تتلمذ على يد الموسيقي إسحاق الموصلي، وعاش فترة في بلاط الخليفة هارون الرشيد، الذي أعجب به أشد الإعجاب، ثم سافر إلى المغرب، وكرّم آنذاك من قبل أمير القيروان (زيادة الله الأول الأغلبي ) ، وفي الأندلس قام بتعليم كثير من التلاميذ والجواري فنون الموسيقا ،من عزف وغناء، كما أضاف الوتر الخامس إلى العود .
كما تميز في العصر العباسي كلٌ من ( إسحاق الموصلي وإبراهيم الموصلي ) ، اللذان أضافا الكثير على الموسيقا ،ولهما مؤلفات وأعمال كثيرة، في فنون الموسيقا وأسرارها، كما اشتهر من الكرد (وصفي الدين رماوي) مؤسس أول مدرسة موسيقية، و(محمد الخطيب أربيلي) الذي درس الموسيقا الشرق أوسطية بكل تنويعاتها .
وجاء في كتاب حلب لؤلؤة التاريخ ودرة بلاد الشام (ثم لا يخفى أن مدينة حلب ، هي موطن الموسيقا الأصيلة في بلاد الشام، ومن أشهر الذين حافظوا على ذلك التراث الموسيقي الأصيل، مطرب وملحّن يدعى بكري الكردي )
وفي العصر الحديث لمعت أسماء عديدة في سماء الموسيقا الكردية ،وأصبحت رموزاً موسيقية يحتذى بها ،أمثال الفنان محمد عارف جزراوي ،وتحسين طه ،ومحمد شيخو ،وسعيد يوسف، والفنان المبدع شفان برور ،والموسيقار فقي تيرا، وعازف الكمان دلشاد ،وغيرهم الكثير، وقد كان للكرد بصمتهم المميزة في المقامات الموسيقية وطرقها ، والتي احتفظت بأسمائها الكردية حتى وقتنا الراهن، مثل مقام الراست أي المستقيم أو الصحيح، ويكاه أي الأول، ودوكاه أي الثاني، وسيكاه أي الثالث، وجهاركاه أي الرابع، والكرد نسبة إلى الشعب الكردي ،ودل نه ئيشينه أي لا تؤلم قلبي، وجان أفرا أي مفرّح الروح، وغيرها .....
وقد ساهمت الأغنية الكردية بدور كبير في رفع معنويات الشعب الكردي؛ وحثه على التمسك بالروح القومية ،وألهبت عواطفه ،وأضرمت شعلة الثورة في كيانه وعقله، وأنعشت إرادته كلما أصابتها انتكاسة ،وخاصة في كردستان العراق وكردستان تركيا .
ويعتبر الفنان شفان برور رائداً للأغنية الثورية دون منازع؛ و كانت أغنياته تردد في أعالي الجبال ،حيث كان الثوار يقودون الثورة من هناك ،وقد ساعد الفنان شفان في نجاح أغنياته صوته الجميل والقوي، وشخصيته المميزة، واختياره لكلمات أغنياته، التي أخذ معظمها في بدايات رحلته الفنية، من دواوين شاعر الأكراد جكرخوين.
وتعتبر أغنية ( kîne em) ،من أجمل ما غنى الفنان شفان ،والأكثر شهرة بين أغانيه .
استطاع الفنان شفان ،الاستحواذ على قلوب الملايين من شعبه، من خلال الوقوف مع قضايا الكادحين والمحرومين، ووقوفه ضد الإقطاع والرأسمالية وقوى الرجعية، داعياً في أغنياته شعبه الكردي، بالاستفادة من تجارب الشعوب المضطَهدة ،التي استطاعت تحقيق الخلاص لشعبها، بفضل التجربة الاشتراكية، كما وقف الفنان شفان مع قضية المرأة، داعياً إلى تحريرها من القيود التي فرضها عليها مجتمعها، وعلى ضرورة مساواتها مع الرجل.
شفان برور ،الذي ولد عام 1955 في قرية صوري القريبة من أورفا، خريج قسم الرياضيات، وغير دارس للموسيقا ، قدّم أول حفلة له عام 1970 م ، حضرها آنذاك أكثر من ثلاثين ألف متفرج ،وأصدر أول كاسيت عام 1975 بعنوان : ( Govenda azadî xwazan) التي وبسببها، صدرت الأوامر باعتقاله ،فاستطاع الفرار آنذاك، واللجوء إلى السويد، التي حصل على جنسيتها فيما بعد.
لشفان برور حوالي 25 كاسيتاً منوعاً، بالإضافة إلى عدد من الكليبات ،وقد أحيا العشرات من الحفلات، في أوربا، والولايات المتحدة الأمريكية، وكردستان العراق ،وبعض الدول العربية، كلبنان، والإمارات العربية المتحدة، وغيرها
حاز على العديد من الجوائز العالمية ،كجائزة تشارلز كروس الدولية للموسيقا عام 2004، برعاية الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك ،وشهادة تقدير من الولايات المتحدة الأمريكية عام 2000، حين غنى في ولاية سان دييغو الأمريكية.
وفي سوريا ذاع صيت الفنان محمد شيخو ،الذي تميّز بصوته المتفرد، وقدرته على التأثير، وقد أبدع بحق في كلا اللونين ،القومي والعاطفي، ولا يمكن تقييم هذا الفنان من جهة فنه وعطائه فحسب، بل من جهة كونه مناضلاً حقيقياً في خدمة قضية شعبه، فقد عانى مرارة السجن والنفي والملاحقة والفقر، حتى يوم رحيله.
دافع الفنان محمد شيخو من خلال أغانيه، عن قضية شعبه في جميع أجزاء كردستان، فلوحق وسجن ونفي عدداً من المرات ،وكان يتميز بصوتٍ قوي قلّ نظيره، وكان موفقاً في اختيار الكلمات لأغانيه، ومن أشهر الشعراء الذين غنى قصائدهم ،جكرخوين، وبدرخان سندي، وصبري بوطاني ،ومحمد علي شاكر ،وسيدايي تيريز ،ويوسف برازي، وآخرون
أما الفنان سعيد يوسف، (أمير البزق ) فقد كان له لونه الخاص، فقد أسر قلوب الملايين، من خلال أغنياته العاطفية العذبة ،والجميلة، والبسيطة من حيث الكلمة، المؤثرة من حيث المعنى، ويعتبر بلا منازع ،من أشهر عازفي البزق في العالم ،وهو ابن مدينة قامشلو في سوريا ،مدينة الحب كما وصفها في إحدى أغنياته.
أما شيخ الفنانين الكرد محمد عارف جزراوي ،والفنان محمد طيب طاهر، والفنانة مريم خان، وعيشة شان، وكاويس آغا ،وشمال صائب، فقد أبدعوا وتميزوا في أداء الأغاني الفولكلورية ،واستطاعوا أن يؤسسوا مدرستهم الخاصة، والتي استفاد منها معظم الفنانين المميزين في كردستان.
لقد توقفت عند بعض الأسماء اللامعة في مجال الموسيقا الكردية؛ ولن أستطيع من خلال مقالتي هذه أن أقف عند البقية، فهناك الكثير من الفنانين المبدعين، الذين تركوا بصمة واضحة في مجال الموسيقا ،كالموسيقار والمخرج المبدع فقي تيرا ،والفنان حسن زيراك، ومحمد ماملي ،والفنان ناصر رزازي ،والفنان محمود عزيز شاكر، وتحسين طه، وسعيد كاباري، و آرام ديكران وكليستان برور ،وشيرين، وصلاح أوسي، وشيدا، وأياز يوسف ،وجوان حاجو، وغيرهم
كما تميزت بعض الفرق الفنية الكوردية ،وقدمت أغنيات جميلة، ولمع اسمها في سماء الفن الكردي، أذكر منها :فرقة كومكار، وفرقة برخودان .
وخلاصة القول : فقد لعبت الموسيقا دوراً هاماً وكبيراً في حياة الشعوب، لما لها من بالغ التأثير على الروح ،والنفس، والمشاعر، ولا مجال لنا إلا أن نؤمن بأنها، غذاء الروح، وراحة العقل، وشفاء النفس.
· كاتب سوري- قامشلي